شرح حديث البيعان بالخيار

شرح حديث (البيعان بالخيار) – دراسة تفصيلية فقهية وتحليلية

يُعدّ حديث (البيعان بالخيار) من الأحاديث النبوية ذات الأثر الكبير في تنظيم المعاملات التجارية ضمن الشريعة الإسلامية، وهو أحد الأحاديث التي تندرج تحت باب “البيوع” في كتب الفقه والحديث. ولهذا الحديث أبعاد شرعية وأخلاقية وتنظيمية تُبرِز مكانة الإسلام كدين يراعي مصالح الأفراد والمجتمعات، ويوازن بين حرية الإرادة وضبط المعاملات بالضوابط الشرعية والعدالة الأخلاقية.

يقول النبي محمد ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

“البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما”

(رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532)

هذا الحديث الشريف يُعد من الأحاديث الجوهرية في فقه المعاملات، وقد أُولِيَ اهتماماً واسعاً في كتب الفقهاء والمحدثين والمفسرين بسبب ما يحمله من دلالات فقهية وأخلاقية وتنظيمية.

أولًا: دراسة مفردات الحديث

البيعان: المراد بهما البائع والمشتري، ويدخل فيه كل من تعاقد على بيع وشراء.

بالخيار: أي لهما الحق في فسخ العقد أو إمضائه.

ما لم يتفرقا: أي ما داما في مجلس العقد لم يفترقا جسدياً، فبمجرد تفرقهما يزول هذا الخيار.

فإن صدقا وبيّنا: أي إن صدق الطرفان في وصف السلعة وثمنها وحالها، وبيّنا العيوب والمزايا.

بورك لهما في بيعهما: أي حصل لهما النفع والبركة في المال، وهذه البركة تتجلى في النماء، وطيب الاستخدام، ودوام المنفعة.

وإن كذبا وكتما: أي كذب أحدهما أو كلاهما في تفاصيل السلعة أو الثمن، وكتموا العيوب أو الخلل.

مُحِقَت بركة بيعهما: أي زالت البركة، وربما كان في ذلك خسارة مادية أو معنوية، وقد تنقلب الصفقة ضرراً عليهما.

ثانيًا: شرح الحديث من حيث الأحكام الفقهية

1. خيار المجلس

هذا الحديث أصل في إثبات خيار المجلس، وهو من الخيارات الشرعية في البيع، ويُقصد به أن يظل لكل من المتبايعين حق فسخ البيع ما دام مجلس العقد قائماً ولم يتفرقا بجسديهما. ويستمر الخيار ما دام الطرفان في نفس المكان، ولم يغادر أحدهما المجلس.

وقد اتفق جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة على هذا الحكم، بينما خالف الحنفية، واعتبروا أن العقد يصبح لازماً فور صدوره دون خيار المجلس، وفسروا الحديث على أنه محمول على الندب أو الإرشاد وليس الإلزام.

2. خيار الشرط

يتضمن الحديث أيضاً إشارة ضمنية إلى خيار الشرط، وهو أن يُشترط في العقد أن يكون لأحد الطرفين أو كليهما الحق في فسخ البيع خلال مدة معينة، كأن يقول أحدهما: “لي الخيار ثلاثة أيام”، فهذا جائز شرعاً، ويدخل تحت قاعدة “المسلمون على شروطهم” ما لم يكن الشرط مخالفاً للشرع.

3. خيار التدليس والكتمان

الحديث يُسلط الضوء على النهي عن التدليس والكتمان في البيع، فقد قرن النبي ﷺ بين الصدق والبركة، وبين الكذب ومحق البركة. وهذا يُظهر أن المعاملات التجارية في الإسلام ليست محكومة فقط بالقواعد الفقهية، بل بالأخلاق والصدق.

ثالثًا: الفوائد التربوية والأخلاقية في الحديث

– الحث على الصدق والشفافية:

الحديث يُرسي قاعدة ذهبية في المعاملات وهي أن البركة في البيع مرهونة بالصدق والبيان، وهذا يُحفّز على احترام المشتري وتقديم السلعة على حقيقتها.

– النهي عن الغش والخداع:

الكتمان والكذب في البيع من صور الغش المحرّم، وقد قال ﷺ في حديث آخر: “من غش فليس منا”، فالحديث الحالي يعزز نفس المبدأ من زاوية المعاملات اليومية.

– المسؤولية المشتركة:

الحديث لا يحمّل طرفاً واحداً مسؤولية الفساد في البيع، بل يُشرك الطرفين في البركة أو المحق بناء على مدى صدقهما وإخلاصهما.

– ضبط حرية التعاقد:

الإسلام لم يمنع البيع ولم يضيّق على التجار، بل أباح المعاملات ولكن ضبطها بضوابط شرعية وأخلاقية، منها خيار المجلس الذي يُراعي التروي والتفكير.

رابعًا: التفصيل في خيار المجلس وموقف الفقهاء

هذا الجدول يبيّن الخلاف الفقهي حول خيار المجلس، ويدلّ على المرونة الفقهية التي يتمتع بها الفقه الإسلامي في استيعاب الحالات المختلفة.

خامسًا: التطبيقات المعاصرة للحديث

رغم أن الحديث ورد في سياق زمني قديم، إلا أن معانيه وتطبيقاته تمتد إلى المعاملات الحديثة، ويمكن تلخيص بعض التطبيقات المعاصرة كما يلي:

– البيع الإلكتروني:

يمكن إسقاط خيار المجلس على منصات التجارة الإلكترونية، بحيث يُتاح للمشتري حق الرجوع في السلعة خلال مدة محددة بعد الاستلام، وهو ما يُسمّى في القوانين المعاصرة بـ “فترة الإرجاع” (Return Period)، وهذا يحقق مبدأ خيار المجلس بصيغة جديدة.

– العقود الذكية والتجارة الرقمية:

خيار المجلس قد يتجلى في العقود الذكية (Smart Contracts) في إتاحة مهلة إلغاء العقد قبل التنفيذ التلقائي. ويُعتبر ذلك موافقاً لروح الشريعة في إتاحة التروي ومراجعة القرار قبل الالتزام النهائي.

– التسويق والشفافية:

الجانب الأخلاقي في الحديث يُترجم اليوم إلى مبادئ الشفافية والنزاهة في التسويق، حيث تُجبر الشركات قانونياً على الإفصاح عن العيوب وتقديم معلومات دقيقة عن المنتجات.

سادسًا: الحديث كمرجعية قانونية في القوانين المعاصرة

أصبح مفهوم “خيار الفسخ” منصوصاً عليه في العديد من القوانين المدنية والتجارية، كما في القانون المدني المصري، والقانون المدني الفرنسي، حيث يُمنح أطراف العقد حق التراجع خلال فترة محددة، وهي روح قريبة من خيار المجلس وخيار الشرط.

هذا يؤكد أن الشريعة الإسلامية كانت سبّاقة في وضع قواعد تُراعي العدالة والإنصاف، وتُعطي الطرفين مساحة كافية للتفكير، وهو ما يتماشى مع المبادئ القانونية الحديثة في العقود والالتزامات.

سابعًا: الربط بين البركة والمعاملات

الحديث لا يكتفي ببيان الحكم الفقهي، بل يُشير إلى الأثر الكوني والتكويني للصدق والكذب في البيع. فإن البركة -وإن كانت أمراً غير محسوس مادياً- إلا أن أثرها يظهر في الرضا، والربح الحلال، ودوام النعمة.

وقد أشار العلماء إلى أن محق البركة لا يعني بالضرورة الخسارة المباشرة، بل قد يكون ذلك بفساد المال، أو فقدان النفع منه، أو نزول البلاء على الإنسان دون أن يشعر بالعلاقة.

ثامنًا: ارتباط الحديث بالمقاصد الشرعية

هذا الحديث يُمثّل تطبيقاً عملياً لمقاصد الشريعة الخمسة، خصوصًا في تحقيق مقاصد:

• حفظ المال: بمنع الغش والتدليس، وضمان استقرار التعاملات المالية.

• حفظ الدين: بالحث على الصدق والابتعاد عن المحرمات المالية.

• حفظ النفس والعِرض: حيث أن كثيراً من النزاعات تنشأ من المعاملات الفاسدة، والإفصاح يخفف من فرص النزاع والتخاصم.

تاسعًا: التفاعل بين الأحكام الشرعية والسلوك الإنساني

الحديث يُبرز التفاعل العضوي بين القانون الشرعي والسلوك الأخلاقي، ويُبيّن أن الشريعة ليست فقط نصوصاً جامدة، بل منظومة تحكمها الروح الأخلاقية.

الصدق، الأمانة، الشفافية، احترام الطرف الآخر، كلها قيم مطلوبة في البيع والشراء، وقد رفعها الحديث إلى مرتبة شرط البركة، لا مجرد تحسينات أخلاقية.

عاشرًا: فقه الواقع من خلال الحديث

في زمان تتوسع فيه المعاملات التجارية وتتشعب الصور، فإن حديث (البيعان بالخيار) لا يزال قاعدة فقهية مرنة يمكن إسقاطها على صور لا حصر لها من التعاملات، سواء كانت مباشرة أو عبر وسائط، وسواء كانت في السوق التقليدي أو المنصات الإلكترونية.

فقهاء العصر يمكنهم من خلال هذا الحديث صياغة عقود تتضمن البنود الشرعية التي تحافظ على حقوق الأطراف وتضمن سلامة المعاملة، وفي ذات الوقت تواكب تطورات العصر في التجارة.

المصادر والمراجع

• صحيح البخاري، حديث رقم 2079

• صحيح مسلم، حديث رقم 1532

• ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري

• الإمام النووي، شرح صحيح مسلم